الرجوع
تدوينة

وهجٌ اخترق جسدي وسكن روحي

وهجٌ اخترق جسدي وسكن روحي
تدوينة قصيرة
تدوينة قصيرة
مشاركـة

في إحدى الليالي المُعتمة -التي لا تختلف كثيرًا عن حياتي-، كنتُ جالسًا فوق الكرسيّ الهزّاز، مثخنٌ بالجراح العميقة، عالقٌ بالذكريات اللعينة، أحاول أن أحل العُقد التي تلازم عقلي، وما أن أحل عقدةً فتنعقد أخرى، يا للخيبة يا لليأس.

رفعت رأسي عاليًا متنهِّدًا، فلمحتْ عينيّ شيئًا ما، شيئًا ما يضيء وحيدًا بوسط السماء الحالكة، أراه وكأنهُ يلوّح لي بيديه الصغيرتين، الجميلتين، الرقيقتين.

أطلتُ النظر بذلك الوهم البديع، فقلت هل يا تُرى يناديني؟ ما أن بدأتُ بالتساؤل إلّا بهِ ينزل بكل تواضعٍ ويجلس بجانبي، وينظر بعينيّ كما لم ينظر لهما أحدٌ من قبل، ثم تناول يداي فأمسك بهما وابتسمَ لي، وما أنا من بسمته بسليم. أصبحتُ بتلك البسمة، أضمرُ كل جروحي وأستمدُّ منها كل قوتي، في ثنايا ذلك الليل الذي طالت عتمته ولم يحن بزوغ الفجر، جعلتْ من نفسها شمسًا لتضيء عتمة ليلي.

كحمامةُ سلام، مضت بعبيرها الفوّاح واقتحمت منزلي الذي يعجُّ بالأغبرة والخالي من الجلّاس، بعثرت أوراقي وجددت أغصاني، نشرت السكينة بنجواي، وبثّت سحرها داخلي، لتجعلني أبصر على كونٍ مشرقٍ بديع. وكأنني صحراءٌ قاحلة بعد سنين القحط والجدب، أرسلها الله لي طيفًا متجملًا لتروي معاناتي وتسقي آمالي، لأحيا وأمتلئ بالحياة من جديد.

في كل يومٍ عند المغيب تمرني وتجلس بقربي فتطول لحظات الغروب ليرتبط مغيب النور بنُزوحها، لا يمكن للظلام أن يعمّ المكان ونورها ساطع. تبدأ بالكلام فتتحدث كلحنٍ من تلك الألحان الموسيقية التي تتشبّث بك ولا تريد أن تدَعَك، تملك عقلًا واعيًا يكبرها عمرًا، ترى به ما هو أبعد من الظاهر. طموحةٌ لا تنظر إلا للأمام، قويةٌ لا تستسلم للآلام، معطاءةٌ لا تسأم من الإحسان، شغوفةٌ لا تتوقف عن الأحلام. يتعمقها روحٌ مفعمةٌ بالحياة، يصعب على المرء التفريق بينها وبين وردة متفتحة. الذي أستطيع أن أقوله بأنها لم تكن أسطورة حُب أبدًا، بل ثروة فكرية واهتمام يتلذذ به العقل.

unsplash-image-xYIuqpHD2oQ.jpg

يقول ليو تولستوي عن قلمه: "وجدت فيه قلبًا ينبض، وجرحًا يلتئم، وروحًا تهيم.. وجدت فيه نفسي". وأنا أقول بأنها هي قلمي الذي وجدت بهِ نفسي، سأكون ممتنٌ لها طيلة عمري. تتحدث بقربي وأنا لا يسعني إلا أن أتأمل عظمة الرب سبحانه في حسنها، لا يوجد فنّان على وجه الكون يمكنه تصوّر جمال ورونق المشهد الذي أمامي، أنه سحرٌ آسر بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. في كل مرةٍ أنظر إليها تفيض عيناي ككوكبين ممتلئين عن آخرهما، فائقة الحسن، رقيقة الخلقة، أيقونة للجمال، صدّقوني لو أفنيت عمري كله في وصف حسنها، لما كان عمري كافيًا، ولما استطعت. كم تمنيت لو لدي القدرة على إيقاف الزمن، وأن أقف عند هذه اللحظة مدة أطول لأتأملها كما ينبغي. في هذه اللحظات علمت بأنها قد ملكت روحي وعقلي ووجداني، وأني قد أحببت شخصًا بكل قواي دون عشقٍ أو لوعة هوى، لكن من صميم أعماقي.

اكتشفت أن حياتي السابقة كانت تسير في إيقاع ثابتٍ ورتيب، وأن جميع الأوقات التي لم أقضها معها كانت أوقاتًا ضائعة، قبل أن اصطدم بالأقدار الجميلة التي استطاعت بشكلٍ ساحر أن تحرف بوصلة حياتي نحو منعطف جديد لم أكن أتوقعه. أصبحتُ مغمورًا تحت سطح أفكارها وكلامها، أصبحت مغمورًا في عالمها. أنني أعلم جيدًا بأن الاستجابة للغواية تعني الدمار، لكني أؤمن أن للحب طاقة جليّة تستوطن أعماقه، قد تقود المرء في بعض الأحيان إلى الجريمة والضياع وتقوده كذلك إلى طرق النجاة والنعيم. أذكر جيدًا حديث المعالجة النفسية نورة اللحيدان في إحدى حلقاتها من (بودكاست سوان) عندما قالت: "أن أصل الحب هو الحرية، أن تشعر بحريتك الذاتية في اختياراتك، في علاقتك مع الآخرين، وألا تكون مقيدًا بهذا الحب، بل أن تكون حر، تلقائي، عفوي، حقيقي".

برغم كل ما كان يُثقل روحي وفؤادي من مآسي وآلام، جعلت مني شخصًا خفيفًا كخِفّة طيرًا يذرع السماء مرفرفًا بجناحيه، بعد أن كانت حتى أبسط الأشياء تثقل كاهلي لدرجة أن شاربي الذي يعلو شفتيّ كان ذات ليلة أثقل عليّ من كيسِ الإسمنت. كانت بالنسبة لي الملاذ والركن الأكثر أمانًا في عالمٍ يملؤه الخوف، ألوذ إليها بكل مرةٍ أشعر بوحشية وظلم وهمجيّة هذا العالم القبيح، بكل مرةٍ يغسلني الحزن الغامض واليأس الخانق. كنت بالنسبة للجميع.. شخص غريب، صعب الفهم، معقّد العقل، عَسِر التواصل، إلا عندها فهي "الصدر رحب" تفهم مقصدي بكل كلامي، وتسمع أنين صوتي في عز سكوتي، وبما يتغلغل بأعماقي، فكانت تعي جوهري، تصغي لكلامي، تناقش أفكاري، تحترم آرائي، تجاوب تساؤلاتي، وتقف معي.

شعرتُ معها لأول مرة بأن الحياة تنبعث في الكلمات التي أكتبها، والكتب التي أقرأها والقصائد التي أستمع إليها، والصور التي أتأملها. تبددت كل هذه الحياة بعيني وأصبح كل شيء يرقص ويُغنّي وكأن كل ما في الحياة مدعاة للاحتفاء والاحتفال. جعلتني أدرك أن الأفكار والكلمات بمقدورها أن تكون أخّاذة. علمتني كيف أعيش بشجاعةٍ وإقدام، وكيف أن أكون أكثر ثباتًا واتزانًا، علمتني كيف أحب ذاتي وأن أكون غاية في نفسي، وأن أكون قيمة مطلقة وليس نسخة تقبع وسط آلاف النسخ. في نهاية الأمر، أصبحتْ تتعرج في منحدرات شديدة العتمة أمنية مخبأة في درج الزمن وهي التوق إلى أبديةٍ صغيرة معها.

unsplash-image-6ywyo2qtaZ8.jpg

أنني أصف ما أمر به من فرح وسرور بتلك الفتاة الحالمة "آن شيرلي" وهي بالكاد تصدق أنها ذاهبة لمزرعة غرين غابلز بعدما تم تبنيها من عائلة آل كاثبرت، وهي تمضي بين الحقول الجميلة والمراعي الخضراء والحدائق البهيّة وتحت ذلك الدرب الخلّاب المليء بالزهور البيضاء الذي لقّبته بـ "The White Way of Delight”: درب البهجة الأبيض. تفكّر وهي غابطةٌ نفسها بأنها أخيرًا تخلصت من ذلك الملجأ الذي لا يضم إلا التعاسة والحزن وبأنها ستعيش برغد وهناء مع عائلة ومنزل يحتويانها.

أذكر بهجتها بوضوح عندما ذكر لها السيد ماثيو بأنهم قد اقتربوا من المنزل حينما قالت بطمأنينة وأمان يغمرانها:

"Home! What a wonderful word" أنا وأنتم سوف نقرأ كلامها بسطحيةٍ اعتيادية، لكن بالنسبة لهذه الفتاة اليتيمة التي عانت بظلمة الميتم كثيرًا، كان سماع كلمة "منزل" له وقع خاص بأذنيها لما تحتويها هذه الكلمة من معاني عميقة لا يمكن للشخص الحر الساكن بين أحضان عائلته أن يتخيلها.

،من بعد تلك الليلة التي سطعتْ بالسماء عاليًا كملاكٍ بهيئة طير

..بدأ فصلٌ من أجمل فصول عُمري ولا زال

.فصلٌ عميق تعددت صفحاته وأنا لا زلت ببدايته