الرجوع
تدوينة

! الآخر فينا

! الآخر فينا
تدوينة قصيرة
تدوينة قصيرة
مشاركـة

بقدر ما كنت ماهرًا في تضييع الأفكار وإهمالها، بقدر ما أعلم أنّ ما يرتع في ذهني الآن كإلماعة، وما انعقدت العزيمة على الكتابة عنه، مصيره لا يختلف.

ولكيلا أضع هذا عذرًا للتهرب من الكتابة، سأرحل مع نفسي إلى فيلم شاهدته قبل سنوات ولا زال عالقًا في ذهني تماما مثل تلك الأفكار التي أُهملها.

0ecUaq.jpeg

[ Kimi no na wa. -  اسمك.  -  Your Name.]

عنوانُ فيلم، ونقطة مبهمة، ودعوة لتأمل الذات وانشطارها في الآخر.

-ما يلي يتضمن حرقًا للفيلم -

الفيلم عن فتاة في المدرسة الثانوية تدعى "ميتسوها"، من بلدة في إقليم هيدا المشهور بجباله الخلّابة في اليابان، وفتى يدعى "تاكي"، من إحدى المدارس الثانوية في طوكيو، يطمح أن يكون فنانَ رسمٍ أو معماريًا، ويعمل بدوام جزئي في إحدى المطاعم الإيطاليّة.

تعيش الفتاة مع جدتها وأخت تصغرها، بعد أنّ توفيّت الأمّ، وقرّر الأب -العمدة لاحقًا للبلدة- الابتعاد عن موضع الوفاة، غير أنّ الجدة لم تسمح بإبعاد الفتيات.

تشعر الفتاة بشهوة السفر وترك المألوف، والتوق إلى أماكن بعيدة، أو بملل من حياتها الريفية، وكره لصُغر البلدة واتصال أهلها ببعض، آملةً التوجه نحو العاصمة "طوكيو"، وهي إذاك غير مكترثة بوالدها، ولا بحملته الانتخابية.

في عشيّة دينية، تؤدي الفتاة أحد طقوس ديانة الشينتو التقليدية؛ فتخمّر الأرز بمضغه في فمها ووضعه في قربة، وبعد سخرية من رفاق "الصداقة اللزجة"، تتمنى لو أنّها كانت شابًا يقطن في "طوكيو".

بطريقة غير مفسرة، وبعد أداء طقس الشينتو آنف الذكر، تبدأ الفتاة يومها متلبسة جسد فتى، وهو الآخر تلبس جسدها إلى اليقظة القادمة، نتيجة ذلك يقضي الفتى يومه في جسد فتاة، وتقضي هي يومها في جسد فتى، بانتقال عابر للمكان كأوّل وهلة لدى الشخصيات، ولكنّه عابر للزمان أيضًا -ضمن إطار القصة الكامل-.

يحاولان بادىء بدء أن يتكيّفا مع الجسد وتفاصيل الحياة، ولأنّ الإنسان تعلوه وصاية على الآخر أكثر من نفسه، ينزح كل منهما إلى إصلاح المشاكل التي يعيشها الآخر في حياته، وعندما يقرران أن يلتقيا وجهًا لوجه، وبعد عدد من المواقف والتغيّرات، وفجأة وبلا سابق إنذار تتوقف الأمنية، وينتهي التلبس.

حينها يبدأ الفتى في البحث عن البلدة التي تعيش فيها الفتاة، وهو لا يعرف عنها إلا موضعًا في الذهن رسمه، وبعد بحث يكتشف أن نيزكًا قد ضرب تلك البلدة قبل ثلاث سنوات، وعند وصوله إليها يجدها بحيرة، ويعثر على قربة الأرز المخمّر الذي تركته الفتاة، فيتناوله في محاولة منه ليتلبس جسدها تارة أخرى، حتى يتسنى له تحذريها من النيزك وإخبارها بحبه، فينجح في محاولته، ويلتقيان لثوانٍ على قمة جبل هيدا، كلّ بجسده الطبيعي، وبعد التحذير يفشل كلاهما في كتابة اسمه على يد الآخر، بهدف تذكرّه، ورغم ذلك يكتب الفتى: "أحبّك"، على يدها.

وبعد محاولات عدّة تنجح الفتاة في إقناع والدها العمدة بإخلاء البلدة، وتتلاشى الذكريات التي جمعت "تاكي" و"ميتسوها" ببعض، وبعد سنوات، وسير للحياة في وضعها الطبيعي، دون أن يتذكر أحدهما الآخر، يتقابلان فجأة، حيث تتقاطع قطاراتهما في إحدى المحطات، فيُميزان بعضهما، وفي لقطة ختامية، يسأل كل منهما الآخر عن اسمه.

❃❃❃

بعد أن وازنتَ القبعة أيّها القارئ، حان موعد الوعي في نقاط:

↞ أبعد ما يمكن أن يكون من أسباب الحبِّ عند ابن حزم "النومُ"، ولكنّه هنا البعد يختلف، بُعد امتدّ فيه الحبّ حدّ الوجود في الآخر والاستغراق فيه، لا من قبيل الفكر فقط، بل يصل إلى الذاكرة الروحيّة التي تغذي الحالة بين المحبين، فيشاطر الوجود طيف الحبّ حتى يشكّل من ذواتهما ذاتًا متحدّة، ويكأنّ المحبّ من غرقه يسمع صيحته مندلعة من حنجرة من يحبّ، ولو ناده أحدٌ باسم حبيبه لما صحح له.

↞ «ألم تتعب من كونك أنت؟» هذا سؤال "شينكاي" الذي دسه حتى لا تتماهى الذات في نفسها، أو على الأقلّ هذا ما شعرت به، «فاللا مقول ذروة اللغة».

↞ كلٌ شيء في العالم يفهم بالإشارة إلى شيء آخر؛ الذكورة تفهم عن طريق الأنوثة وكذا العكس، وهذا تشربتْهُ نفسي أثناء المشاهدة، فالفيلم يعطي منظورًا مختلفًا لدواخلنا، ففي كل إنسان تعرفه إنسان لا تعرفه كما يقول الرافعي، وهذا الذي لا نعرفه فينا منه الأنوثة والذكورة، فكلّ فرد مهما كان جنسه ينطوي على مقابل له.

↞ يقال إنّ «الجسد هو البوابة التي تنفتح على الوجود» في إشارة لارتباط الوعي به، واللغة كحدّ، والموت.. نعم فالموت لا ينفّك تصوّره عن الجسد، وصناعات العالم الكبرى تدلّ على فكرة تجنب الموت، من رياضة واستجمام وقانون وحروب وحتى تحنيط الفراعنة للأجساد كان إيمانًا ما بخلود للجسد.

وعيك لجسدك طموح منك في نسيانه، وإعجابك بجمال ملموس إعجاب بما يتجاوز كينونته الماديّة.

اقتباس الختام:

"حياة كل إنسان عبارة عن طريق نحو نفسه"

هيرمان هيسه-