الرجوع
تدوينة

لعنة الذكريات

لعنة الذكريات
تدوينة قصيرة
تدوينة قصيرة
مشاركـة

هي تلك الموسيقى التي وإن عُزفت في مكانٍ ما لا يعني لك شيئًا، تقلّب ملفات عقلك وتضطرب بها خلاياك، هي ذاتها تلك الموسيقى التي رقصت عليها أنت وأقرانك أو كانت هي خلفية تسكعك مع حبيب قلبك تحت مطرٍ غزير، هي ذاتها التي تقاسمتم الفرحة مع أنغامها...، هي ذاتها التي ترشق قلبك بسهام الحنين والشوق! هي ذاتها التي تخطفك من لحظتك لتغطس بك في بحر الماضي فتصير رهن الذكريات.

ما ينطبق على هذه المقطوعة ينطبق على تلك الصور، ذلك العصر، و ذلك المكان الذي أصبح خاويًا لا أحد فيه سوى عناكب الزاوية وبعض العفاريت، الذكريات هدية القدر لعقولنا فمن نحن بلا ضحكنا على شقاوة الطفولة وحلاوة الماضي، هي هديةٌ مادامت كفيلمٍ سينمائي نشاهده لنتسلى ونضحك ونشتاق ونشعر ثم نغلقه ونعيش في حاضرنا لنخلق ذكريات جديدة، وتصبح لعنةً عندما نُغمر فيها ونغرق ولا نستطيع العودة.

نعيش فيما سلف بجميع تفاصيله وكأننا نُفينا بلا أمل للرجوع.. اللعنة التي تنسينا أن لنا حاضرًا نعيشه وتجعلنا في ذلك الوحل الذي يهمس بأن الجمال قد دُفن في الماضي فارجع وادفن روحك معه ودع جسدك يتسكع وحيدًا في الحاضر، لعنة الذكريات لا تختلف كثيرًا عن المستقبل كلاهما لصوص لـ "الآن"، تنسيك هذه اللعنة أن تضحك مع أقرانك لأنك غدًا ربما ستفقدهم، تنسيك هذه اللعنة أن تعبر بكل مشاعرك لأن مشاعرك وروحك غاطسة في وحل عهدك السابق، تنسيك هذه اللعنة أن تضحك بكل قلبك لأنك شُتمت بالأمس!

إتقان عيش اللحظة هو فن أن تستشعر كل قطرة ماء رَوتْك، أن تستشعر بالعصافير التي تغرد على شباك غرفتك، أن تعيش اليوم والآن... أن تتقن فرحك وحزنك.. نعم! ألا تمر على شعورك مرورًا عابرًا، أن تصنع ذكريات لك عندما يمر طيفها أمام ناظريك تبتسم وتقول: نعم، لقد عشت ذاك الوقت بكل تفاصيله.. لا أن تندم وتمزق صفحات مذكراتك وتكسر شريط موسيقى الذكريات لأنك للأسف لم تعشها!

أن تعيش" الآن" هذا لا يعني أن تكون ساذجًا لا تتعلم من دروس الماضي وخيباته ولا تخطط للمستقبل وكنوزه، أن تعيش الآن هو أن ترمي مخلفات "الأنا" وتسمح لذاتك بأن تعي وتهدأ، وقد استعاذ رسولنا الكريم صل الله عليه وسلم من كلا السلبيين فقال: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن) هم المستقبل وحزن الماضي..

unsplash-image-CTiqnCCAQlo.jpg

خذ نفسًا عميـقًا.. شهـيق وزفيـر..، ابعد عن المشتتات، أغلق إشعارات هاتفك، ألا تتذكر ذلك الإشعار الذي سرقك من أوج لحظتك إلى أوج خيالاتك؟!

أخبر نفسك وذكّرها بأنك في الآن.. في الحاضر، ذكّرها بأن هذا الوقت سيمضي وسيصبح ذكرى فاصنع ذكرى جميلة، ذكرها بأن المستقبل بيد الله الذي دبّر جريان دمك وسيّر الكواكب في أفلاكها.. ستطمئن! عش مع الطبيعة، لا تمرّ على تغريد العصافير مرورًا عابرًا!

ارقص مع النسيم وانثر فيه بعض البذور، املأ رئتيك برائحة الشجر المنعشة.. املأها لتطهر جسدك، استمتع بالمعزوفات التي تمر على أذنيك صدفةً وتمايل معها..، تذكّر أنك الآن وهنا لا شيء سوى ذلك!

لن تندم مستقبلاً ولن تفرح إلا على هذه اللحظة إما أنك امتلأت بها فصارت ذكرى مليئة بالشعور، أو أنك أغلفت عليها بابًا ورميت مفتاحه فلا أنت تزوره فتأنس ولا أنت كاسر لهذا الباب فتمحيه وترتاح! أصبح معلقًا بك!

ختامًا، فيض الشعور الذي يزورك في اللحظة التي لا تدري كيف تعيشها، يجعلك تشعر وكأنك في قنينة زجاجية مغلقة، لا أحد يسمع صوتك.. لا تستطيع أن ترقص.. وقد ضاق نَفَسُك!! تصبح كالجنين الذي يركل بطن أمه ولا يستطيع أن يبكي ولم تحن ساعة الولادة بعد! أنت في هذه اللحظة مقيد!..

لحظة..!

إذا وصلت لهذا السطر من النص فاعلم أنك تقرأ نصًا جديًدا غُرس على قبر خاتمةٍ قديمة..، كتبتُ نص "لعنة الذكريات" منذ أشهر... خاتمته كانت تحثّك على المحاربة لأجل لحظاتك، لكنّي قد رميتُ حَربتي!

لا تحارب.. فقط سلّم نفسك للحظةِ واستسلم للشعور وامضِ قدمًا بإنسانيتك.. هذا كل شيء.